فصل: باب الإحرام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


باب الإحرام

أحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تنتهك من ذمة وغيرها، وأحرم للحج لأنه يحرم عليه ما يحل لغيره من الصيد والنساء ونحو ذلك، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو دخل في الشهر الحرام وأحرمه لغة في حرمه العطية أي منعه كذا في ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم وهو في الشريعة نية النسك من حج أو عمرة مع الذكر أو الخصوصية على ما سيأتي، وهو شرط صحة النسك كتكبيرة الافتتاح في الصلاة، فالصلاة والحج لهما تحريم وتحليل بخلاف الصوم والزكاة لكن الحج أقوى من غيره من وجهين الأول أنه إذا تم الإحرام للحج أو للعمرة لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به، وإن أفسده إلا في الفوات فبعمل العمرة وإلا الإحصار فبذبح الهدي‏.‏ الثاني أنه لا بد من قضائه مطلقا ولو كان مظنونا فلو أحرم بالحج على ظن أنه عليه، ثم ظهر خلافه وجب عليه المضي فيه والقضاء إن أبطله بخلاف المظنون في الصلاة فإنه لا قضاء لو أفسده‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وإذا أردت أن تحرم فتوضأ والغسل أفضل‏)‏ قد تقدم دليله في الغسل وهو للنظافة لا للطهارة فيستحب في حق الحائض أو النفساء والصبي لما روي أن ‏{‏أبا بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أسماء قد نفست فقال مرها فلتغتسل ولتحرم بالحج‏}‏ ولهذا لا يشرع التيمم له عند العجز عن الماء، قال الشارح بخلاف الجمعة والعيدين يعني أن الغسل فيهما للطهارة لا للتنظيف، ولهذا يشرع التيمم لهما عند العجز وفيه نظر؛ لأن التيمم لم يشرع لهما عند العجز إذا كان طاهرا عن الجنابة ونحوها والكلام فيه؛ لأنه ملوث ومغير لكن جعل طهارة ضرورة أداء الصلاة ولا ضرورة فيهما، ولهذا سوى المصنف في الكافي بين الإحرام وبين الجمعة والعيدين وأشار المصنف إلى أنه يستحب لمن أراده كمال التنظيف من قص الأظفار والشارب وحلق الإبطين والعانة والرأس لمن اعتاده من الرجال أو أراده، وإلا فتسريحه وإزالة الشعث والوسخ عنه وعن بدنه بغسله بالخطمي والأشنان ونحوهما ومن المستحب عند إرادته جماع زوجته أو جاريته إن كانت معه، ولا مانع من الجماع فإنه من السنة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ والبس إزارا ورداء جديدين أو غسيلين‏)‏؛ لأنه عليه السلام لبسهما هو وأصحابه كما رواه مسلم ولأنه ممنوع عن لبس المخيط ولا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد، وذلك فيما عيناه والإزار من السرة إلى ما تحت الركبة يذكر ويؤنث كما في ضياء الحلوم، والرداء على الظهر والكتفين والصدر ويشده فوق السرة، وإن غرز طرفيه في إزاره فلا بأس به ولو خلله بخلال أو مسلة أو شده على نفسه بحبل أساء ولا شيء عليه، وما في الكتاب بيان للسنة، وإلا فساتر العورة كاف كما في المجمع‏.‏ وأشار بتقديم الجديد إلى أفضليته، وكونه أبيض أفضل من غيره كالتكفين وفي عدم غسل الثوب العتيق ترك للمستحب، ولا يخفى أن هذا في حق الرجل‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وتطيب‏)‏ أي يسن له استعمال الطيب في بدنه قبيل الإحرام أطلقه فشمل ما تبقى عينه بعده كالمسك والغالية، وما لا تبقى لحديث عائشة في الصحيحين‏:‏ «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم‏}‏ وفي لفظ لهما ‏{‏كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم‏}‏، وفي لفظ لمسلم‏:‏ «كأني أنظر إلى وبيص المسك‏}‏ وهو البريق واللمعان، وكرهه محمد بما تبقى عينه، والحديث حجة عليه وقيدنا بالبدن إذ لا يجوز التطيب في الثوب بما تبقى عينه على قول الكل على أحد الروايتين عنهما‏.‏ قالوا وبه نأخذ والفرق لهما بينهما أنه اعتبر في البدن تابعا على الأصح، والمتصل بالثوب منفصل عنه فلم يعتبر تابعا والمقصود من استنانه حصول الارتفاق به حالة المنع منه كالسحور للصوم، وهو يحصل بما في البدن فأغنى عن تجويزه في الثوب إذا لم يقصد كمال الارتفاق حالة الإحرام؛ لأن ‏{‏الحاج الشعث التفل‏}‏، وظاهر ما في الفتاوى الظهيرية أن ما عن محمد رواية ضعيفة، وأن مشهور مذهبه كمذهبهما‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وصل ركعتين‏)‏ أي على وجه السنية بعد اللبس والتطيب؛ لأنه عليه السلام صلاهما كما في الصحيحين ولا يصليهما في الوقت المكروه، وتجزئه المكتوبة كتحية المسجد ثم ينوي بقلبه الدخول في الحج، ويقول بلسانه مطابقا لجنانه اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني؛ لأني محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة فيطلب التيسير والقبول اقتداء بالخليل وولده عليهما السلام حيث قالا ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ ولم يؤمر بمثل هذا الدعاء عند إرادة الصلاة؛ لأن سؤال التيسير يكون في العسير لا في اليسير، وأداؤها يسير عادة كذا في الكافي وقدمنا ما فيه من الخلاف في بحث نية الصلاة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولب دبر الصلاة تنوي بها الحج‏)‏ أي لب عقبها ناويا بالتلبية الحج والدبر بضم الباء وسكونها آخر الشيء كذا في الصحاح، وإنما يلبي لما صح عنه عليه السلام من تلبيته بعد الصلاة، وفي قوله تنوي بها إشارة إلى أن ما ذكره المشايخ من أنه يقول اللهم إني أريد الحج إلى آخره ليس محصلا للنية، ولهذا قال في فتح القدير ولم نعلم أن أحدا من الرواة لنسكه روى أنه سمعه عليه السلام يقول نويت العمرة ولا الحج، ولهذا قال مشايخنا إن الذكر باللسان حسن ليطابق القلب وعلى قياس ما قدمناه في نية الصلاة إنما يحسن إذا لم تجتمع عزيمته وإلا فلا، فالحاصل أن التلفظ باللسان بالنية بدعة مطلقا في جميع العبادات وفي بعض النسخ وقل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولب، وقوله تنوي الحج بيان للأكمل، وإلا فيصح الحج بمطلق النية وإذا أبهم الإحرام بأن لم يعين ما أحرم به جاز وعليه التعيين قبل أن يشرع في الأفعال، والأصل حديث‏:‏ «علي رضي الله عنه حين قدم من اليمن فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه‏}‏ فإن لم يعين، وطاف شوطا كان للعمرة، وكذا إذا أحصر قبل الأفعال فتحلل بدم تعين للعمرة حتى يجب عليه قضاؤها لا قضاء حجة، وكذا إذا جامع فأفسد وجب عليه المضي في عمرة قال في الظهيرية ولم يذكر في الكتاب أن حجة الإسلام تتأدى بنية التطوع ا هـ‏.‏ والمنقول في الأصول أنها لا تتأدى بنية النفل، وتتأدى بمطلق النية نظرا إلى أن الوقت له فيه شبهة المعيارية وشبهة الظرفية فالأول للثاني والثاني للأول‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏)‏ هكذا روى أصحاب الكتب الستة تلبيته صلى الله عليه وسلم ولفظها مصدر مثنى تثنية يراد بها التكثير، وهو ملزوم النصب والإضافة، والناصب له من غير لفظه تقديره أجبت إجابتك إجابة بعد إجابة إلى ما لا نهاية له، وكأنه من ألب بالمكان إذا أقام فهو مصدر محذوف الزوائد، والقياس إلباب ومفرد لبيك لب، واختلف في الداعي فقيل هو الله تعالى وقيل إبراهيم الخليل عليه السلام ورجحه المصنف في الكافي، وقال إنه الأظهر وقيل رسولنا صلى الله عليه وسلم واختلف في همز إن الحمد بعد الاتفاق على جواز الكسر والفتح، واختار في الهداية أن الأوجه الكسر على استئناف الثناء، وتكون التلبية للذات، وقال الكسائي الفتح أحسن على أنه تعليل للتلبية أي لبيك؛ لأن الحمد ورجح الأول في فتح القدير بأن تعليق الإجابة التي لا نهاية لها بالذات أولى منه باعتبار صفة هذا، وإن كان استئناف الثناء لا يتعين مع الكسر لجواز كونه تعليلا مستأنفا كما في قولك علم ابنك العلم إن العلم نافعه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ وهذا مقرر في مسالك العلة من علم الأصول لكن لما جاز فيه كل منهما يحمل على الأول لأولويته ولأكثريته بخلاف الفتح، ليس فيه سوى أنه تعليل‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وزد فيها ولا تنقص‏)‏ أي في التلبية ولا تنقص منها، والزيادة مثل لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل لبيك إله الخلق غفار الذنوب لبيك ذا النعمة والفضل الحسن لبيك عدد التراب لبيك إن العيش عيش الآخرة كما ورد ذلك عن عدة من الصحابة وصرح المصنف في الكافي بأن الزيادة حسنة كالتكرار، وصرح الحلبي في مناسكه باستحبابها عندنا، وأما النقص فقال المصنف إنه لا يجوز، وقال ابن الملك في شرح المجمع إنه مكروه اتفاقا، والظاهر أنها كراهة تنزيهية لما أن التلبية إنما هي سنة فإن الشرط إنما هو ذكر الله تعالى فارسيا كان أو عربيا هو المشهور عن أصحابنا، وخصوص التلبية سنة فإذا تركها أصلا ارتكب كراهة تنزيهية فإذا نقص عنها فكذلك بالأولى فقول المصنف لا يجوز فيه نظر ظاهر وقول من قال إن التلبية شرط مراده ذكر يقصد به التعظيم لا خصوصها، قيدنا بالزيادة في التلبية؛ لأن الزيادة في الأذان غير مشروعة؛ لأنه للإعلام ولا يحصل بغير المتعارف وفي التشهد في الصلاة إن كان الأول فليست بمشروعة كتكراره؛ لأنه في وسط الصلاة فيقتصر فيه على الوارد، وإن كان الأخير فهي مشروعة؛ لأنه محل الذكر والثناء‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فإذا لبيت ناويا فقد أحرمت‏)‏ أفاد أنه لا يكون محرما إلا بهما فإذا أتى بهما فقد دخل في حرمات مخصوصة فهما عين الإحرام شرعا، وذكر حسام الدين الشهيد أنه يصير شارعا بالنية لكن عند التلبية لا بالتلبية كما يصير شارعا في الصلاة بالنية لكن عند التكبير لا بالتكبير ولا يصير شارعا بالنية وحدها قياسا على الصلاة، وروي عن أبي يوسف أن النية تكفي قياسا على الصوم بجامع أنهما عبادة كف عن المحظورات وقياسنا أولى؛ لأنه التزام أفعال كالصلاة لا مجرد كف بل التزام الكف شرط فكان بالصلاة أشبه، والمراد بالتلبية شرط من خصوصيات النسك سواء كان تلبية أو ذكرا يقصد به التعظيم أو سوق الهدي أو تقليد البدن كما ذكره المصنف في المستصفى، وذكر الإسبيجابي أنه لو ساق هديا قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق نوى الإحرام أو لم ينو شيئا وسيأتي تفصيله إن شاء الله ` تعالى ثم إذا أحرم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عقب إحرامه سرا وهكذا يفعل عقب التلبية ودعا بما شاء من الأدعية وإن تبرك بالمأثور فهو حسن‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فاتق الرفث والفسوق والجدال‏)‏ للآية الكريمة ‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏ وهذا نهي بصيغة النفي وهو آكد ما يكون من النهي كأنه قيل فلا يكونن رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وهذا لأنه لو بقي إخبارا لتطرق الخلف في كلام الله تعالى لصدور هذه الأشياء من البعض فيكون المراد بالنفي وجوب انتفائها، وأنها حقيقة بأن لا تكون كذا في الكافي والرفث الجماع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ وقيل الكلام الفاحش؛ لأنه من دواعيه فيحرم كالجماع إلا أن ابن عباس يقول إنما يكون الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روي أنه كان ينشد في إحرامه‏:‏ وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننك لميسا فقيل له أترفث وأنت محرم فقال‏:‏ إنما الرفث بحضرة النساء، والضمير في هن للإبل والهميس صوت نقل إخفافها، وقيل المشي الخفي ولميس اسم جارية والمعنى نفعل بها ما نريد إن صدق الفال، والفسوق المعاصي وهو منهي عنه في الإحرام وغيره إلا أنه في الإحرام أشد كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن‏.‏ والجدال الخصومة مع الرفقاء والخدم والمكارين ومن ذكر من الشارحين أن المراد به مجادلة المشركين بتقديم وقت الحج وتأخيره أو التفاخر بذكر آبائهم حتى أفضى ذلك إلى القتال فإنه يناسب تفسير الجدال في الآية لا الجدال في كلام الفقهاء فلهذا اقتصرنا على الأول وفي المحيط إذا رفث يفسد حجه وإذا فسق أو جادل لا؛ لأن الجماع من محظورات الإحرام ا هـ ولا يخفى أنه مقيد بما قبل الوقوف بعرفة وإلا فلا فساد في الكل‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وقتل الصيد والإشارة إليه والدلالة عليه‏)‏ أي فاتق إذا أحرمت التعرض لصيد البر‏.‏ قال المصنف في المستصفى‏:‏ أريد بالصيد هاهنا المصيد إذ لو أريد به المصدر وهو الاصطياد لما صح إسناد القتل إليه وحرمة قتله ثابتة بالقرآن وحرمة الإشارة والدلالة بحديث أبي قتادة كما سيأتي، والفرق بين الإشارة والدلالة أن الإشارة تقتضي الحضرة والدلالة تقتضي الغيبة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولبس القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والقباء والخفين إلا أن لا تجد النعلين فاقطعهما أسفل من الكعبين والثوب المصبوغ بورس أو زعفران أو عصفر إلا أن يكون غسيلا لا ينفض‏)‏ كما دل عليه حديث الصحيحين والسراويل أعجمية والجمع سراويلات منصرف في أحد استعماليه، ويؤنث والقباء بالمد على وزن فعال بالفتح، والورس صبغ أصفر يؤتى به من اليمن واختلف في قولهم لا ينفض فقيل لا يفوح، وقيل لا يتناثر والثاني غير صحيح؛ لأن العبرة للطيب لا للتناثر ألا ترى أنه لو كان ثوبا مصبوغا له رائحة طيبة ولا يتناثر منه شيء فإن المحرم يمنع منه كذا في المستصفى، والمراد بلبس القباء أن يدخل منكبيه ويديه في كميه؛ لأنه لو لم يدخل يديه في كميه فإنه يجوز عندنا خلافا لزفر كذا في غاية البيان والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك فيما روى هشام عن محمد بخلافه في الوضوء فإنه العظم الناتئ أي المرتفع ولم يعين في الحديث أحدهما لكن لما كان الكعب يطلق عليه وعلى الثاني حمله عليه احتياطا، كذا في فتح القدير أي حمل الكعب في الإحرام على المفصل المذكور لأجل الاحتياط؛ لأن الأحوط فيما كان أكثر كشفا وهو قيما قلنا فالحاصل أنه يجوز لبس كل شيء في رجله لا يغطي الكعب الذي في وسط القدم سرموزه كان أو مداسا أو غير ذلك، ويدخل في لبس القميص لبس الزردة والبرنس، وخرج باللبس الارتداء بالقميص ونحوه؛ لأنه ليس بلبس وذكر الحلبي في مناسكه أن ضابطه لبس كل شيء معمول على قدر البدن أو بعضه بحيث يحيط به بخياطة أو تلزيق بعضه ببعض أو غيرهما، ويستمسك عليه بنفس لبس مثله إلا المكعب، ويدخل في الخفين الجوربان، ولم أر من صرح بما إذا كان قادرا على النعلين فهل له أن يقطع الخفين أسفل من الكعبين، والظاهر من الحديث وكلامهم أنه لا يجوز بمعنى لا يحل لما فيه من إتلاف ماله لغير ضرورة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وستر الوجه والرأس‏)‏ أي واجتنب تغطيتهما لحديث الأعرابي الذي وقصته ناقته ‏{‏لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا‏}‏ واعلم أن أئمتنا استدلوا بهذا الحديث على حرمة تغطية الوجه على المحرم الحي المفهوم من التعليل ولم يعملوا بمنطوقه في حق الميت المحرم فإن حكمه عندنا كسائر الأموات في تغطية الوجه والرأس والشافعية عملوا به فيما إذا مات المحرم ولم يعملوا به في حالة الحياة، وأجاب في غاية البيان عن أئمتنا بأنهم إنما لم يعملوا به في الموت؛ لأنه معارض بحديث‏:‏ «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏}‏ والإحرام عمل فهو منقطع فيغطى العضوان، ولهذا لا يبني المأمور بالحج على إحرام الميت اتفاقا، وهو يدل على انقطاعه بالموت والأعرابي مخصوص من ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء إحرامه وهو في غيره مفقود فقلنا بانقطاعه بالموت، ولأن المرأة لا تغطي وجهها إجماعا مع أنها عورة مستورة وفي كشفه فتنة فلأن لا يغطي الرجل وجهه للإحرام أولى، والمراد بستر الرأس تغطيتها بما يغطى به عادة كالثوب احترازا عن شيء لا يغطى به عادة كالعدل والطبق والإجانة ولا فرق بين ستر الكل والبعض والعصابة، ولهذا ذكر قاضي خان في فتاويه أنه لا يغطي فاه ولا ذقنه ولا عارضه ولا بأس بأن يضع يديه على أنفه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وغسلهما بالخطمي‏)‏ أي وليجتنب غسل رأسه ولحيته بالخطمي واللحية لما كانت في الوجه أعاد الضمير عليها، وإن لم يتقدم لها ذكر ووجوب اجتنابه متفق عليه لكن يجب عليه دم إذا لم يجتنبه عنده؛ لأنه نوع طيب وعندهما صدقة لأنه يقتل الهوام ويلين الشعر، وليس بطيب وهذا الاختلاف راجع إلى تفسيره، وليس باختلاف حقيقة كالاختلاف في الصائبة والإفطار بالإقطار في الإحليل والخطمي بكسر الخاء نبت يغسل به الرأس وقيد بالخطمي؛ لأنه لو غسل رأسه بالحرض والصابون لا شيء عليه باتفاقهم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ومس الطيب‏)‏ أي واجتنبه مطلقا في الثوب والبدن لقوله عليه السلام‏:‏ «الحاج الشعث التفل‏}‏ وهو بكسر العين مغبر الرأس والتفل بكسر الفاء تارك الطيب، وهو في اللغة نقيض الخبث وفي الشريعة هو جسم له رائحة طيبة كالزعفران والبنفسج والياسمين والغالية والورد والورس والعصفر والحناء، ولم يذكر المصنف هنا الدهن كما في الوافي إما أنه أصل الطيب فدخل تحته، وإما للاختلاف كما سيأتي في باب الجنايات‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وحلق رأسه وقص شعره وظفره‏)‏ أي واجتنب هذه الأشياء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم‏}‏ والقص في معناه فثبت دلالة، والمراد إزالة الشعر كيفما كان حلقا وقصا ونتفا وتنورا وإحراقا من أي مكان كان من الرأس والبدن مباشرة أو تمكينا، لكن قال الحلبي في مناسكه ويستثنى منه قلع الشعر النابت في العين فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا شيء فيه عندنا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ لا الاغتسال ودخول الحمام‏)‏ أي لا يتقيهما لما روى مسلم‏:‏ «أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرم‏}‏‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ والاستظلال بالبيت والمحمل‏)‏ أي لا يجتنبه والمحمل بفتح الميم الأولى وكسر الثانية أو عكسه وهو مقيد بما إذا لم يصب رأسه ولا وجهه فلو أصاب أحدهما يكره كما لو حمل ثيابا على رأسه فإنه يلزمه الجزاء بخلاف ما إذا حمل نحو الطبق أو الإجانة والعدل المشغول‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وشد الهميان في وسطه‏)‏ أي لا يجتنبه وهو بالكسر ما يجعل فيه الدراهم، ويشد على الحقو أطلقه فشمل ما إذا كان فيه نفقته أو نفقة غيره؛ لأنه ليس بلبس مخيط ولا في معناه‏.‏ وأشار إلى أنه لا يكره شد المنطقة والسيف والسلاح والتختم بالخاتم، ومما لا يكره له أيضا الاكتحال بغير المطيب وأن يختتن ويفتصد ويقلع ضرسه ويجبر الكسر ويحتجم، وأن يحك رأسه وبدنه غير أنه إن خاف سقوط شيء من شعره بسبب ذلك حكه برفق وإن لم يخف من ذلك فلا بأس بالحك الشديد‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وأكثر من التلبية متى صليت أو علوت شرفا أو هبطت واديا أو لقيت ركبا وبالأسحار رافعا صوتك‏)‏ أي أكثر منها على وجه الاستحباب عند اختلاف الأحوال كتكبير الصلاة عند الانتقال أطلق الصلاة فشمل فرضها وواجبها ونفلها، وهو ظاهر الرواية وخصها الطحاوي بالمكتوبات قياسا على تكبيرات التشريق كما ذكره الإسبيجابي وعلوت شرفا أي صعدت مكانا مرتفعا وقيل بضم الشين جمع شرفة، والركب جمع راكب كتجر جمع تاجر، والسحر السدس الأخير من الليل وصرح في المحيط بأن الزيادة منها على المرة الواحدة سنة حتى تلزمه الإساءة بتركها‏.‏ قال في فتح القدير فظهر أن التلبية فرض وسنة ومندوب، ويستحب أن يكررها كلما أخذ فيها ثلاث مرات، ويأتي بها على الولاء ولا يقطعها بكلام، ولو رد السلام في خلالها جاز لكن يكره لغير السلام عليه في حالة التلبية، وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة وتقدم أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عقب تلبيته سرا، ويسأل الله الجنة، ويتعوذ من النار ورفع الصوت بها سنة إلا أنه لا يجهد نفسه كما يفعله العوام‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وابدأ بالمسجد بدخول مكة‏)‏ الباء الأولى باء التعدية وهو إيصال معنى متعلقها بمدخولها، والثانية للسببية وعبارة أصله أولى وهي إذا دخل مكة بدأ بالمسجد الحرام؛ لأنه أول شيء فعله عليه السلام، وكذا الخلفاء بعده وقد قدمنا في كتاب الطهارة أن من الاغتسالات المسنونة الاغتسال لدخولها، وهو للنظافة فيستحب للحائض والنفساء ولم يقيد دخول مكة بزمن خاص فأفاد أنه لا يضره ليلا دخلها أو نهارا؛ لأنه عليه السلام دخلها نهارا في حجته وليلا في عمرته فهما سواء في عدم الكراهة، وما روي عن ابن عمر أنه كان ينهى عن الدخول ليلا فليس تقريرا للسنة بل شفقة على الحاج من السراق، وأما المستحب فالدخول نهارا كما في الخانية، ويستحب أن يدخل مكة من باب المعلا ليكون مستقبلا في دخوله باب البيت تعظيما، وإذا خرج فمن السفلى ولا يخفى أن تقديم الرجل اليمنى سنة دخول المساجد كلها، ويستحب أن يكون ملبيا في دخوله حتى يأتي باب بني شيبة فيدخل المسجد الحرام منه؛ لأنه عليه السلام دخل منه وهو المسمى بباب السلام متواضعا خاشعا ملبيا ملاحظا جلالة البقعة مع التلطف بالمزاحم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وكبر وهلل تلقاء البيت‏)‏ أي مواجها له لحديث جابر‏:‏ «أنه عليه السلام كبر ثلاثا وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏}‏، فالمراد من التكبير الله أكبر أي من هذه الكعبة المعظمة كذا في غاية البيان، والأولى أي من كل ما سواه، ومن التهليل لا إله إلا الله ولم يذكر المصنف الدعاء عند مشاهدة البيت وهكذا في المتون وهي غفلة عما لا يغفل عنه فإن الدعاء عندها مستجاب ومحمد رحمه الله لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات؛ لأن التوقيت يذهب بالرقة، وإن تبرك بالمنقول منها فحسن كذا في الهداية وفي الولوالجية من فصل القراءة للمصلي ينبغي أن يدعو في الصلاة بدعاء محفوظ لا بما يحضره؛ لأنه يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس فتفسد صلاته فأما في غير الصلاة فينبغي أن يدعو بما يحضره، ولا يستظهر الدعاء؛ لأن حفظ الدعاء يمنعه عن الرقة ا هـ‏.‏ وقد ذكر في المناقب أن أبا حنيفة أوصى رجلا يريد السفر إلى مكة بأن يدعو الله عند مشاهدة البيت باستجابة دعائه فإن استجيبت هذه الدعوة صار مستجاب الدعوة، وفي فتح القدير ومن أهم الأدعية طلب الجنة بلا حساب والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا من أهم الأذكار كما ذكره الحلبي في مناسكه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم استقبل الحجر مكبرا مهللا مستلما بلا إيذاء‏)‏ لفعله عليه السلام كذلك ولنهي عمر عن المزاحمة ولأن الاستلام سنة والكف عن الإيذاء واجب فالإتيان بالواجب متعين، والاستلام أن يضع يديه على الحجر الأسود ويقبله لفعله عليه السلام الثابت في الصحيحين وإن لم يقدر وضع يديه وقبلهما أو إحداهما فإن لم يقدر أمس الحجر شيئا كالعرجون ونحوه، وقبله لرواية مسلم وإن عجز عن ذلك للزحمة استقبله ورفع يديه حذاء أذنيه، وجعل باطنهما نحو الحجر مشيرا بهما إليه وظاهرهما نحو وجهه هكذا المأثور وإن أمكنه أن يسجد على الحجر فعل لفعله عليه السلام والفاروق بعده وقول القوام الكاكي الأولى أن لا يسجد عندنا ضعيف، وهذا التقبيل المسنون إنما يكون بوضع الشفتين من غير تصويت كما ذكره الحلبي في مناسكه، وقد أشار إلى أنه لا يبدأ بالصلاة؛ لأن تحية البيت الطواف فإن كان حلالا فيطوف طواف التحية وإن كان محرما بالحج فطواف القدوم وهو أيضا تحية إلا أنه خص بهذه الإضافة، وإن دخل في يوم النحر بعد الوقوف فطواف الفرض يغني كصلاة الفرض تغني عن تحية المسجد أو بالعمرة فطواف العمرة، ولا يسن في حقه طواف القدوم واستثنى علماؤنا من ذلك ما إذا دخل في وقت منع الناس من الطواف أو كان عليه فائتة مكتوبة أو خاف خروج الوقت للمكتوبة أو الوتر أو سنة راتبة أو فوت الجماعة في المكتوبة فإنه يقدم الصلاة على الطواف في هذه المسائل، ثم يطوف وفي قوله الحجر دون أن يصفه بالسواد إشارة إلى أنه حين أخرج من الجنة كان أبيض من اللبن، وإنما اسود بمس المشركين والعصاة كذا في المحيط‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وطف مضطبعا وراء الحطيم آخذا عن يمينك مما يلي الباب سبعة أشواط‏)‏ لفعله عليه السلام كذلك لما رواه أبو داود، وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقيه على عاتقه الأيسر يقال اضطبع بثوبه وتأبط به وقولهم اضطبع رداءه سهو، وإنما الصواب بردائه كذا في المغرب وهو سنة مأخوذ من الضبع وهو العضد؛ لأنه يبقى مكشوفا وينبغي أن يفعله قبل الشروع في الطواف بقليل، وأما إدخال الحطيم في طوافه فهو واجب؛ لأن الحطيم ثبت كونه من البيت بخبر الواحد حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على الحطيم ما دام بمكة، ولو لم يعد لزمه دم ولو استقبل الحطيم وحده لا تجوز صلاته؛ لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد احتياطا، وله ثلاث أسام حطيم وحظيرة وحجر وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت فرجة وسمي به؛ لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقتول؛ أو لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه الله كما جاء في الحديث فهو بمعنى فاعل كذا في كشف الأسرار، وليس كله من البيت بل مقدار ستة أذرع من البيت برواية مسلم عن عائشة وفي غاية البيان أن فيه قبر هاجر وإسماعيل عليهما السلام، وأما أخذه عن يمينه مما يلي الباب فهو واجب أيضا حتى لو طاف منكوسا صح، وأثم لتركه الواجب ويجب إعادته ما دام بمكة فإن رجع قبل إعادته فعليه دم، والحكمة في كونه يجعل البيت عن يساره أن الطائف بالبيت مؤتم به، والواحد مع الإمام يكون الإمام على يساره وقيل لأن القلب في الجانب الأيسر، وقيل ليكون الباب في أول طوافه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتوا البيوت من أبوابها‏}‏‏.‏ وأشار بقوله مما يلي الباب أن الافتتاح من الحجر الأسود واجب؛ لأنه عليه السلام لم يتركه قط، وقيل شرط حتى لو افتتح من غيره لا يجزئه؛ لأن الأمر بالطواف في الآية مجمل في حق الابتداء فالتحق فعله عليه السلام بيانا له كذا في فتح القدير هنا وفي باب الجنايات ذكر أن ظاهر الروايات أنه سنة، وذكر في المحيط أنه سنة عند عامة المشايخ حتى لو افتتح من غير الحجر جاز ويكره، وذكر محمد في الرقيات أنه لم يجز ذلك القدر وعليه الإعادة، وإليه أشار في الأصل فقد جعل البداية منه فرضا ا هـ‏.‏ والأوجه الوجوب للمواظبة والافتراض بعيد عن الأصول للزوم الزيادة على القطعي بخبر الواحد، ولعل صاحب المحيط أراد بالسنة السنة المؤكدة التي بمعنى الواجب، وتكون الكراهة تحريمية، ولما كان الابتداء من الحجر واجبا كان الابتداء من الطواف من الجهة التي فيها الركن اليماني قريبا من الحجر الأسود متعينا ليكون مارا بجميع بدنه على جميع الحجر الأسود، وكثير من العوام شاهدناهم يبتدئون الطواف وبعض الحجر خارج عن طوافهم فاحذره، وقوله سبعة أشواط بيان للواجب لا للفرض في الطواف فإنا قدمنا أن أقل الأشواط السبعة واجبة تجبر بالدم فالركن أكثر الأشواط، واختلف فيه فقيل أربعة أشواط وهو الصحيح نص عليه محمد في المبسوط، وذكر الجرجاني أنه ثلاثة أشواط وثلثا شوط، وخالف المحقق ابن الهمام أهل المذهب، وجزم بأن السبعة ركن فإنه لا يجزئ أقل منها، وأن هذا ليس من قبيل ما يقام فيه الأكثر مقام الكل، وأطال الكلام فيه في الجنايات، وهذا التقدير أعني السبعة مانع للنقصان اتفاقا، واختلفوا في منعه للزيادة حتى لو طاف ثامنا، وعلم أنه ثامن اختلفوا فيه والصحيح أنه يلزم إتمام الأسبوع؛ لأنه شرع فيه ملتزما بخلاف ما إذا ظن أنه سابع ثم تبين له أنه ثامن فإنه لا يلزمه الإتمام؛ لأنه شرع فيه مسقطا لا ملتزما كالعبادة المظنونة كذا في المحيط، وبهذا علم أن الطواف خالف الحج فإنه إذا شرع فيه مسقطا يلزمه إتمامه بخلاف بقية العبادات، والأشواط جمع شوط وهو جري مرة إلى الغاية كذا في المغرب وفي الخانية من الحجر إلى الحجر شوط، واعلم أن مكان الطواف داخل المسجد الحرام حتى لو طاف بالبيت من وراء زمزم أو من وراء السواري جاز ومن خارج المسجد لا يجوز وعليه أن يعيد؛ لأنه لا يمكنه الطواف ملاصقا لحائط البيت فلا بد من حد فاصل بين القريب والبعيد فجعلنا الفاصل حائط المسجد؛ لأنه في حكم بقعة واحدة فإذا طاف خارج المسجد فقد طاف بالمسجد لا بالبيت؛ لأن حيطان المسجد تحول بينه وبين البيت كذا في المحيط وقد علمت مما قدمناه من واجبات الحج أن الطهارة فيه من الحدثين واجب، وكذا ستر العورة فلو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز الصلاة معه لزمه دم كذا في الظهيرية، وأما الطهارة من الخبث فمن السنة لا يلزمه بتركها شيء كما صرح به في المحيط وغيره لكن صرح في الفتاوى الظهيرية بأنه لو طاف طواف الزيارة في ثوب كله نجس فهذا وما لو طاف عريانا سواء فإن كان من الثوب قدر ما يواري عورته طاهرا والباقي نجسا جاز طوافه ولا شيء عليه، وأطلق الطواف فأفاد أنه لا يكره في الأوقات التي تكره الصلاة فيها؛ لأن الطواف ليس بصلاة حقيقة، ولهذا أبيح الكلام فيه كما ورد في الحديث، ولا تبطله المحاذاة، وقالوا لا بأس بأن يفتي في الطواف ويشرب ويفعل ما يحتاج إليه، لكن يكره إنشاد الشعر فيه والحديث لغير حاجة والبيع، وأما قراءة القرآن فيه فمباحة في نفسه ولا يرفع بها صوته كما في المحيط، والمعروف في الطواف إنما هو مجرد ذكر الله روى ابن ماجه عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏{‏من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتبت له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات‏}‏ وفي المحيط لو خرج من طوافه إلى جنازة أو مكتوبة أو تجديد وضوء ثم عاد بنى‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ترمل في الثلاثة الأول فقط‏)‏ بيان للسنة أي في الأشواط الثلاثة الأول دون غيرها فأفاد أنه من الحجر إلى الحجر لحديث ابن عمر وابن عباس في حجة الوداع المروي في الصحيحين ردا على ما قال إنه ينتهي إلى الركن اليماني، واعلم أن الأصل زوال الحكم عند زوال العلة؛ لأن الحكم ملزوم لوجود العلة، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، وقول من قال إن علة الرمل في الطواف زالت وبقي الحكم ممنوع فإن ‏{‏النبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع‏}‏ تذكيرا لنعمة الأمن بعد الخوف ليشكر عليها فقد أمر الله بذكر نعمه في مواضع من كتابه وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها، ويجوز أن يثبت الحكم بعلل متبادلة فحين غلبة المشركين كانت علة الرمل إيهام المشركين قوة المؤمنين وعند زوال ذلك تكون علته تذكير نعمة الأمن كما أن علة الرق في الأصل استنكاف الكافر عن عبادة ربه، ثم صار علته حكم الشرع برقه وإن أسلم وكالخراج فإنه يثبت في الابتداء بطريق العقوبة، ولهذا لا يبتدأ به على المسلم ثم صار علته حكم الشرع بذلك حتى لو اشترى المسلم أرض خراج لزمه عليه الخراج، كذا ذكره المحقق أكمل الدين في شرح البزدوي من بحث القدرة الميسرة وقد رد المحقق ابن الهمام في باب العشر والخراج كون الحكم ملزوما لوجود العلة في العلل الشرعية؛ لأن العلل الشرعية أمارات على الحكم لا مؤثرات فيجوز بقاء الحكم بعد زوال علته، وإنما ذلك في العلل العقلية‏.‏ وأشار بقوله بعد ذلك ثم اخرج إلى الصفا إلى أنه لا يرمل إلا في طواف بعده سعي فلو أراد تأخير السعي إلى طواف الزيارة لا يرمل في طواف القدوم، وذكر الشارح معزيا إلى الغاية إذا كان قارنا لم يرمل في طواف القدوم إن كان رمل في طواف العمرة وأشار بقوله فقط إلى أنه لو ترك الرمل في الشوط الأول لا يرمل إلا في الشوطين بعده وبنسيانه في الثلاثة الأول لا يرمل في الباقي؛ لأن ترك الرمل في الأربعة سنة فلو رمل فيها لكان تاركا للسنتين، وكان ترك أحدهما أسهل فإن زاحمه الناس في الرمل وقف فإذا وجد مسلكا رمل؛ لأنه لا بدل له فيقف حتى يقيمه على الوجه المسنون بخلاف استلام الحجر؛ لأن الاستقبال بدل له وفي الولوالجية ولو رمل في الكل لم يلزمه شيء‏.‏ ا هـ‏.‏ وينبغي أن يكره تنزيها لمخالفة السنة، والرمل كما في الهداية أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين، وقيل هو إسراع مع تقارب الخطا دون الوثوب والعدو وهو في اللغة كما في ضياء الحلوم بفتح الفاء والعين الهرولة وفي فتح القدير وهو بقرب البيت أفضل فإن لم يقدر فهو في البعد من البيت أفضل من الطواف بلا رمل مع القرب منه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ واستلم الحجر كلما مررت به إن استطعت‏)‏ أي من غير إيذاء لحديث البخاري أنه «عليه السلام طاف على بعير كلما أتى في الركن أشار بشيء في يده وكبر‏}‏ وفي المغرب استلم الحجر تناوله بيده أو بالقبلة أو مسحه بالكف من السلمة بفتح السين وكسر اللام، وهي الحجر أفاد أن استلام الحجر بين كل شوطين سنة كما صرح به في غاية البيان، وذكر في المحيط والولوالجي في فتاواه أن الاستلام في الابتداء والانتهاء سنة، وفيما بين ذلك أدب ولم يذكر المصنف استلام غير الحجر؛ لأنه لا يستلم الركن العراقي والشامي وأما اليماني فيستحب أن يستلمه ولا يقبله وعند محمد هو سنة وتقبيله مثل الحجر الأسود، الدلائل تشهد له فإن ‏{‏ابن عمر قال لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين‏}‏ كما في الصحيحين‏.‏ وعن ابن عباس أنه عليه السلام‏:‏ «كان يقبل الركن اليماني، ويضع يده عليه» رواه الدارقطني وعنه عليه السلام‏:‏ «إذا استلم الركن اليماني قبله» رواه البخاري في تاريخه‏.‏ وعن ‏{‏ابن عمر أنه قال ما تركت استلام هذين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما‏}‏، رواه مسلم وأبو داود وقد علمت أن استلام الحجر والركن اليماني يعم التقبيل فقد دل على سنية استلامه وأظهر منه ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أنه عليه السلام لا يدع أن يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه فإنه صريح في المواظبة الدالة على السنية، واعلم أنه قد صرح في غاية البيان أنه لا يجوز استلام غير الركنين وهو تساهل، فإنه ليس فيه ما يدل على التحريم، وإنما هو مكروه كراهة التنزيه والحكمة في عدم استلامهما أنهما ليسا من أركان البيت حقيقة؛ لأن بعض الحطيم من البيت فيكون الركنان إذن وسط البيت وأن الأصل في النسبة إلى اليمن والشام يمني وشامي ثم حذفوا إحدى يائي النسبة، وعوضوا منها ألفا فقالوا اليماني والشامي بالتخفيف، وبعضهم يشدده كما في الصحاح‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ واختم الطواف به وبركعتين في المقام أو حيث تيسر من المسجد‏)‏، أما ختم الطواف بالاستلام فهو سنة لفعله عليه السلام كذلك في حجة الوداع، وأما صلاة ركعتي الطواف بعد كل أسبوع فواجبة على الصحيح لما ثبت في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام‏:‏ «لما انتهى إلى مقام إبراهيم عليه السلام قرأ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏‏}‏ فنبه بالتلاوة قبل الصلاة على أن صلاته هذه امتثالا لهذا الأمر، والأمر للوجوب إلا أن استفادة ذلك من التنبيه، وهو ظني فكان الثابت الوجوب، ويلزمه حكمنا بمواظبته عليه السلام من غير ترك إذ لا يجوز عليه ترك الواجب، ويكره وصل الأسابيع عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف وهي كراهة تحريم لاستلزامها ترك الواجب، ويتفرع على الكراهة أنه لو نسيهما لم يتذكر إلا بعد أن شرع في طواف آخر إن كان قبل إتمام شوط رفضه وبعد إتمامه لا، ولو طاف بصبي لا يصلي ركعتي الطواف عنه كذا في فتح القدير، وقيد بعضهم قول أبي يوسف بأن ينصرف عن وتر، والمراد بالمقام مقام إبراهيم وهي حجارة يقوم عليها عند نزوله وركوبه من الإبل حين يأتي إلى زيارة هاجر وولدها إسماعيل كذا ذكر المصنف في المستصفى، وذكر القاضي في تفسيره أنه الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج، وقيل مقام إبراهيم الحرم كله، وقول المصنف من المسجد بيان للفضيلة وإلا فحيث أراد ولو بعد الرجوع إلى أهله؛ لأنها على التراخي ما لم يرد أن يطوف أسبوعا آخر فتكون على الفور لما قدمنا من كراهة وصل الأسابيع، وقد تقدم في الأوقات المكروهة أنه لا يصليهما فيها فحمل قولهما يكره وصل الأسابيع إنما هو في وقت لا يكره التطوع فيه، ولم أر نقلا فيما إذا وصل الأسابيع في وقت الكراهة ثم زال وقتها أنه يكره الطواف قبل الصلاة لكل أسبوع ركعتين، وينبغي أن يكون مكروها لما أن الأسابيع في هذه الحالة صارت كأسبوع واحد وفي الفتاوى الظهيرية يقرأ في الركعة الأولى ب ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ وفي الثانية ب ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ تبركا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قرأ غير ذلك جاز، وإذا فرغ من صلاته يدعو للمؤمنين والمؤمنات‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ للقدوم وهو سنة لغير المكي‏)‏ أي طف هذا الطواف لأجل القدوم وهذا الطواف سنة للآفاقي دون المكي لأنه كتحية المسجد لا يسن للجالس فيه هكذا ذكروا، وليس هذا كتحية المسجد من كل وجه فإن الفرض أو السنة تغني عن تحية المسجد بخلاف طواف القدوم لما سيأتي من أن القارن يطوف للعمرة أولا، ثم يطوف للقدوم ثانيا ولا يكفيه الأول ولم يذكر المصنف الشرب من ماء زمزم بعد ختم الطواف، وإنما ذكره بعد الفراغ من أفعال الحج، وكذا إتيان الملتزم والتشبث به، وكذا العود إلى الحجر الأسود قبل السعي، والكل مستحب لكن الأخير مشروط بإرادة السعي حتى لو لم يرده لم يعد إلى الحجر بعد ركعتي الطواف كما في الولوالجية‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم اخرج إلى الصفا وقم عليه مستقبل البيت مكبرا مهللا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك‏)‏ لما ثبت في حديث جابر الطويل وقد قدمنا أن هذا السعي واجب وليس بركن للحديث‏:‏ «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي‏}‏ قاله عليه السلام حين كان يطوف بين الصفا والمروة فإنه ظني وبمثله لا يثبت الركن؛ لأنه إنما يثبت عندنا بدليل مقطوع فما في الهداية من تأويله بمعنى كتب استحبابا فمناف لمطلوبه؛ لأنه الوجوب وجميع السبعة الأشواط واجب لا الأكثر فقط فإنهم قالوا في باب الجنايات لو ترك أكثر الأشواط لزمه دم وإن ترك الأقل لزمه صدقة فدل على وجوب الكل إذ لو كان الواجب الأكثر لم يلزمه في الأقل شيء أشار بثم إلى تراخي السعي عن الطواف، فلو سعى ثم طاف أعاده؛ لأن السعي تبع ولا يجوز تقدم التبع على الأصل، كذا ذكر الولوالجي، وصرح في المحيط بأن تقديم الطواف شرط لصحة السعي وبهذا علم أن تأخير السعي عن الطواف واجب، وإلى أن السعي لا يجب بعد الطواف فورا بل لو أتى به بعد زمان ولو طويلا لا شيء عليه والسنة الاتصال به كالطهارة فصح سعي الحائض والجنب، وكذا الصعود عليه مع ما بعده سنة حتى يكره أن لا يصعد عليهما كما في المحيط، وقد قدمنا أن المشي فيه واجب حتى لو سعى راكبا من غير عذر لزمه دم ولم يذكر أي باب يخرج منه إلى الصفا؛ لأنه مخير؛ لأن المقصود يحصل به، وإنما خرج عليه السلام من باب بني مخزوم المسمى الآن بباب الصفا؛ لأنه أقرب الأبواب إليه فكان اتفاقا لا قصدا فلم يكن سنة، ولم يذكر رفع اليدين في هذا الدعاء، وهو مندوب حذو منكبيه جاعلا باطنهما إلى السماء، ثم اعلم أن أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس وهو والمروة جبلان معروفان بمكة، وكان الصفا مذكرا؛ لأن آدم عليه السلام وقف عليه فسمي به ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة فأنث لذلك كذا ذكر القرطبي في تفسيره وفي التحفة الأفضل للحاج أن لا يسعى بعد طواف القدوم؛ لأن السعي واجب لا يليق أن يكون تبعا للسنة بل يؤخره إلى طواف الزيارة؛ لأنه ركن، واللائق للواجب أن يكون تبعا للفرض‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم اهبط نحو المروة ساعيا بين الميلين الأخضرين وافعل عليها فعلك على الصفا‏)‏ أي على المروة من الصعود والتكبير والتهليل والصلاة والدعاء، والكل سنة حتى لو ترك الهرولة بين الميلين لا شيء عليه، وهما شيئان على شكل الميلين منحوتان من نفس جدار المسجد الحرام إلا أنهما منفصلان عنه وهما علامتان لموضع الهرولة في ممر بطن الوادي بين الصفا والمروة كذا في المغرب‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة‏)‏ كما صح في حديث جابر الطويل، وقوله تبدأ بالصفا بيان للواجب حتى لو بدأ بالمروة لا يعتد بالأول هو الصحيح لمخالفة الأمر وهو قوله عليه السلام‏:‏ «ابدءوا بما بدأ الله به‏}‏ وإشارة إلى أن الذهاب إلى المروة شوط والعود منها إلى الصفا شوط آخر، وهو الصحيح لما صح في حديث جابر أنه قال ‏{‏فلما كان آخر طوافه على المروة‏}‏ ولو كان من الصفا إلى الصفا شوطا لكان آخر طوافه الصفا، ونقل الشارح عن الطحاوي أن الذهاب من الصفا إلى المروة والرجوع منها إلى الصفا شوط قياسا على الطواف فإنه من الحجر إلى الحجر شوط وفي الفتاوى الظهيرية ما يخالفه فإنه قال لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط محسوب من الأشواط السبعة فأما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط آخر‏.‏ قال الطحاوي لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطا آخر، والصحيح أنه شوط آخر ا هـ‏.‏ وفرق المحقق ابن الهمام بين الطوافين بالفرق لغة بين طاف كذا وكذا سبعا الصادق بالتردد من كل من الغايتين إلى الأخرى سبعا وبين طاف بكذا فإن حقيقته متوقفة على أن يشمل بالطواف ذلك الشيء فإذا قال طاف به سبعا كان بتكرير تعميمه بالطواف سبعا فمن هنا افترق الحال بين الطواف بالبيت حيث لزم في شوطه كونه من المبدإ إلى المبدإ، والطواف بين الصفا والمروة حيث لم يستلزم ذلك ا هـ‏.‏ ولم يذكر صلاة ركعتين بعد السعي ختما له وهي مستحبة لفعله عليه السلام لذلك لما رواه أحمد‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم أقم بمكة حراما؛ لأنك محرم بالحج‏)‏ فلا يجوز له التحلل حتى يأتي بأفعاله فأفاد أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز وما في الصحيحين من أنه عليه السلام أمر بذلك أصحابه إلا من ساق منهم الهدي فهو مخصوص بهم لما في صحيح مسلم عن أبي ذر أن المتعة كانت لأصحاب محمد خاصة وفي بعض الشروح أنها كانت مشروعة على العموم، ثم نسخت كمتعة النكاح أو معارض بما في الصحيحين أيضا أن ‏{‏من أهل بالحج أو بالحج والعمرة لم يحلوا إلى يوم النحر‏}‏‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فطف بالبيت كلما بدا لك‏)‏ أي ظهر لك لحديث الطحاوي وغيره‏:‏ «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل لكم المنطق‏}‏ والصلاة خير موضوع فكذا الطواف إلا أنه لا يسعى لكونه لا يتكرر لا وجوبا ولا نفلا، وكذا الرمل ويجب أن يصلي لكل أسبوع ركعتين كما قدمناه فالطواف التطوع أفضل للغرباء من صلاة التطوع ولأهل مكة الصلاة أفضل منه هكذا أطلقه كثير، وينبغي تقييده بزمن الموسم وإلا فالطواف أفضل من الصلاة مكيا كان أو غريبا وينبغي أن يكون قريبا من البيت في طوافه إذا لم يؤذ به أحدا والأفضل للمرأة أن تكون في حاشية المطاف، ويكون طوافه وراء الشاذروان كي لا يكون بعض طوافه بالبيت بناء على أنه منه، وقال الكرماني الشاذروان ليس عندنا من البيت وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه، وهو تلك الزيادة الملصقة بالبيت من الحجر الأسود إلى فرجة الحجر قيل بقي منه حين عمرته قريش وضيقته وفي التجنيس الذكر أفضل من القراءة في الطواف وفي فتح القدير معزيا لكافي الحاكم يكره أن يرفع صوته بالقراءة فيه ولا بأس بقراءته في نفسه ولم يذكر المصنف دخول البيت وهو مستحب إذا لم يؤذ أحدا كذا قالوا يعني لا نفسه ولا غيره، وقليل أن يوجد هذا الشرط في زمن الموسم كما شاهدناه، ويستحب أن يصلي فيه اقتداء به عليه السلام، وينبغي أن يقصد مصلاه عليه السلام وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل مشى قبل وجهه، ويجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع، ثم يصلي ويلزم الأدب ما استطاع بظاهره وباطنه ولا برفع بصره إلى السقف فإذا صلى إلى الجدار يضع خده عليه، ويستغفر ويحمد ثم يأتي الأركان فيحمد ويهلل ويسبح ويكبر ويسأل الله تعالى ما شاء‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم اخطب قبل يوم التروية بيوم وعلم فيها المناسك‏)‏ يعني في اليوم السابع من الحجة بعد صلاة الظهر خطبة واحدة لا جلوس فيها، ويوم التروية هو يوم الثامن سمي به؛ لأن الناس يروون إبلهم فيه لأجل يوم عرفة، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام رأى في تلك الليلة في منامه أن يذبح ولده بأمر ربه فلما أصبح روى في النهار كله أي تفكر أن ما رآه من الله تعالى فيأتمره أولا فلا، وظاهر كلام المغرب تعينه فإنه قال والأصل الهمزة وأخذها من الرؤية خطأ ومن الري منظور فيه، وأراد بالمناسك الخروج إلى منى وإلى عرفة والصلاة فيها والوقوف والإفاضة، وهذه أول الخطب الثلاث التي في الحج، ويبدأ في الكل بالتكبير ثم بالتلبية ثم بالتحميد كابتدائه في خطبة العيدين، ويبدأ بالتحميد في ثلاث خطب وهي خطبة الجمع والاستسقاء والنكاح كذا في المبتغى‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم رح يوم التروية إلى منى‏)‏ وهي قرية فيها ثلاث سكك بينها وبين مكة فرسخ وهي من الحرم، والغالب عليه التذكير والصرف وقد يكتب بالألف كذا في المغرب أطلقه فأفاد أنه يجوز التوجه إليها في أي وقت شاء من اليوم، واختلف في المستحب على ثلاثة أقوال أصحها أنه يخرج إليها بعدما طلعت الشمس لما ثبت من فعله عليه السلام كذلك في حديث جابر الطويل وابن عمر مع اتفاق الرواة أنه صلى الظهر بمنى فالبيتوتة بها سنة والإقامة بها مندوبة كذا في المحيط، ولو لم يخرج من مكة إلا يوم عرفة أجزأه أيضا، ولكنه أساء لترك السنة، وأفاد أنه لا فرق بين أن يكون يوم التروية يوم الجمعة أو لا فله الخروج إليها يوم الجمعة قبل الزوال، وأما بعده فلا يخرج ما لم يصلها كما إذا أراد أن يسافر يوم الجمعة من مصره وينبغي أن لا يترك التلبية في الأحوال كلها حال الإقامة بمكة داخل المسجد الحرام وخارجه إلى حال كونه في الطواف، ويلبي عند الخروج إلى منى ويدعوا بما شاء، ويستحب أن ينزل بالقرب من مسجد الخيف‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى عرفات بعد صلاة الفجر يوم عرفة‏)‏ وهي علم للموقف وهي منونة لا غير، ويقال لها عرفة أيضا ويوم عرفة التاسع من ذي الحجة وسمي به؛ لأن إبراهيم عليه السلام عرف أن الحكم من الله فيه أو لأن جبريل عرفه المناسك فيه، أو لأن آدم وحواء تعارفا فيه بعد الهبوط إلى الأرض وهذا بيان الأفضل حتى لو ذهب قبل طلوع الفجر إليها جاز كما يفعله الحجاج في زماننا فإن أكثرهم لا يبيت بمنى لتوهم الضرر من السراق، ويستحب أن يسير على طريق ضب، ويعود على طريق المأزمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في العيدين، وينزل مع الناس حيث شاء وبقرب الجبل أفضل والبعد عن الناس في هذا المكان تجبر والحال حال تضرع ومسكنة أو إضرار بنفسه أو متاعه أو تضييق على المارة إن كان بالطريق، والسنة أن ينزل الإمام بنمرة ونزول النبي صلى الله عليه وسلم بها لا نزاع فيه كذا في فتح القدير‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم اخطب‏)‏ يعني خطبتين بعد الزوال والآذان قبل الصلاة يجلس بينهما كما في الجمعة للاتباع، وإنما أطلقه لإفادة أنها جائزة قبل الزوال واكتفى بما ذكره في الأولى من تعليم المناسك عن أن يقول ويعلم الناس فيها المناسك التي هي إلى الخطبة الثالثة وهي الوقوف بعرفة والمزدلفة، والإفاضة منهما ورمي جمرة العقبة يوم النحر والذبح والحلق وطواف الزيارة، ولما كان الإطلاق مصروفا إلى المعهود دل أنه إذا صعد الإمام المنبر وجلس أذن المؤذن وهو ظاهر المذهب وهو الصحيح للاتباع الثابت عنه عليه السلام‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم صل بعد الزوال الظهر والعصر بأذان وإقامتين بشرط الإمام والإحرام‏)‏ لما ثبت من حديث جابر من الجمع بينهما كذلك فيؤذن للظهر ثم يقيم له ثم يقيم للعصر؛ لأنها تؤدى قبل وقتها المعتاد فتفرد بالإقامة للإعلام‏.‏ وأشار بذكر العصر بعد الظهر إلى أنه لا يصلي سنة الظهر البعدية، وهو الصحيح كما في التصحيح فبالأولى أن لا ينتقل بينهما فلو فعل كره، وأعاد الأذان للعصر لانقطاع فوره فصار كالاشتغال بينهما بفعل آخر وفي اقتصاره في بيان شرط الجمع على ما ذكر دليل على أن الخطبة ليست من شرطه بخلاف الجمعة وعلى أن الجماعة ليست من شرطه حتى لو لحق الناس الفزع بعرفات فصلى الإمام وحده الصلاتين فإنه يجوز بالإجماع على الصحيح كذا في الوجيز وفي البدائع، ولا يلزم عليه ما إذا سبق الإمام الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا، وذهب الإمام ليتوضأ فصلى الخليفة الظهر والعصر ثم جاء الإمام أنه لا يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها؛ لأن عدم الجواز هناك ليس لعدم الجماعة بل لعدم الإمام؛ لأنه خرج عن أن يكون إماما، وصار كواحد من المؤتمين أو يقال الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة لكن في حق غير الإمام لا في حق الإمام‏.‏ ا هـ‏.‏ فما في النقاية والجوهرة والمجمع من اشتراط الجماعة ضعيف، ولو أحدث بعد الخطبة قبل أن يشرع في الصلاة فاستخلف من لم يشهد الخطبة جاز، ويجمع بين الصلاتين بخلاف الجمعة، وذكر الإمام والإحرام بالتعريف للإشارة إلى تعيينهما، فالمراد بالإمام الإمام الأعظم أو نائبه مقيما كان أو مسافرا فلا يجوز الجمع مع إمام غيرهما، ولو مات الإمام وهو الخليفة جمع نائبه أو صاحب شرطه لأن النواب لا ينعزلون بموت الخليفة، والأصلي كل واحدة منهما في وقتها، والمراد بالإحرام إحرام الحج حتى لو كان محرما بالعمرة يصلي العصر في وقته عنده، وهذان الشرطان لا بد منهما في كل من الصلاتين لا في العصر وحدها حتى لو كان محرما بالعمرة في الظهر محرما بالحج في العصر لا يجوز له الجمع عنده كما لو لم يكن محرما في الظهر، وأطلق في وقت الإحرام فأفاد أنه لا فرق بين أن يكون محرما قبل الزوال أو بعده وهو الصحيح؛ لأن المقصود حصوله عند أداء الصلاتين، ولا يشترط الإمام لجميع أداء الظهر حتى لو أدرك جزءا منه معه جاز له الجمع كذا في المحيط وهذا كله مذهب الإمام وعندهما لا يشترط إلا الإحرام عند العصر وهو رواية فجوز للمنفرد الجمع وفي قوله صلى الظهر إشارة إلى الصحيحة فلو صلاها، ثم تبين فساد الظهر أعادهما جميعا؛ لأن الفاسد عدم شرعا، وذكر في معراج الدراية أنه يؤخر هذا الجمع إلى آخر وقت الظهر وفي المحيط لا يجهر بالقراءة فيهما‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى الموقف وقف بقرب الجبل‏)‏ أي ثم رح والمراد بالجبل جبل الرحمة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة‏)‏ لحديث البخاري‏:‏ «عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وشعاب مكة كلها منحر‏}‏ وفي المغرب عرنة واد بحذاء عرفات وبتصغيرها سميت عرينة ينسب إليها العرنيون وذكر القرطبي في تفسيره أنها بفتح الراء وضمها بغربي مسجد عرفة حتى لقد قال بعض العلماء إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة، وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل وعرنة في الحرم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ حامدا مكبرا مهللا ملبيا مصليا داعيا‏)‏ أي قف حامدا إلى آخره لحديث مالك وغيره‏:‏ «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير‏}‏ وكان عليه السلام يجتهد في الدعاء في هذا الموقف حتى روي عنه‏:‏ «أنه عليه السلام دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم ثم أعاد الدعاء بالمزدلفة فأجيب حتى الدماء والمظالم‏}‏ خرجه ابن ماجه وهو ضعيف بالعباس بن مرداس فإنه منكر الحديث ساقط الاحتجاج كما ذكره الحفاظ لكن له شواهد كثيرة فمنها ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال ‏{‏كان فلان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره غفر له‏}‏ ومنها ما رواه البخاري مرفوعا‏:‏ «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏}‏ ومنها ما رواه مسلم في صحيحه مرفوعا‏:‏ «أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله‏}‏ ومنها ما رواه مالك في الموطإ مرفوعا‏:‏ «ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه رأى جبريل يزع الملائكة‏}‏ فإنها تقتضي تكفير الصغائر والكبائر، ولو كانت من حقوق العباد لكن ذكر الأكمل في شرح المشارق أن الإسلام يهدم ما كان قبله أن المقصود أن الذنوب السالفة تحبط بالإسلام والهجرة والحج صغيرة كانت أو كبيرة، وتتناول حقوق الله وحقوق العباد بالنسبة إلى الحربي حتى لو أسلم لا يطالب بشيء منها حتى لو كان قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لا يؤاخذ بشيء من ذلك وعلى هذا كان الإسلام كافيا في تحصيل مراده ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة والحج تأكيدا في بشارته وترغيبا في مبايعته فإن الهجرة والحج لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر، وإنما يكفران الصغائر ويجوز أن يقال والكبائر التي ليست من حقوق العباد أيضا كالإسلام من أهل الذمة وحينئذ لا يشك أن ذكرهما كان للتأكيد ا هـ‏.‏ وهكذا ذكر الإمام الطيبي في شرح هذا الحديث، وقال إن الشارحين اتفقوا عليه، وهكذا ذكر الإمام النووي والقرطبي في شرح مسلم وذكر القاضي عياض أن أهل السنة أجمعوا على أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، فالحاصل أن المسألة ظنية، وأن الحج لا يقطع فيه بتكفير الكبائر من حقوق الله تعالى فضلا عن حقوق العباد وإن قلنا بالتكفير للكل فليس معناه كما يتوهمه كثير من الناس أن الدين يسقط عنه، وكذا قضاء الصلوات والصيامات والزكاة إذ لم يقل أحد بذلك، وإنما المراد أن إثم مطل الدين وتأخيره يسقط بعد الوقوف بعرفة إذا مطل صار آثما الآن، وكذا إثم تأخير الصلاة عن أوقاتها يرتفع بالحج لا القضاء ثم بعد الوقوف بعرفة يطالب بالقضاء فإن لم يفعل كان آثما على القول بفوريته، وكذا البقية على هذا القياس وبالجملة فلم يقل أحد بمقتضى عموم الأحاديث الواردة في الحج كما لا يخفى‏.‏ وأشار بقوله ملبيا إلى الرد على من قال يقطعها إذا وقف ثم اعلم أن الوقوف ركن من أركان الحج كما قدمناه، وهو أعظم أركانه للحديث الصحيح‏:‏ «الحج عرفة‏}‏ وشرطه شيئان‏:‏ أحدهما كونه في أرض عرفات‏.‏ الثاني أن يكون في وقته كما سيأتي بيانه وليس القيام من شرطه ولا من واجباته حتى لو كان جالسا جاز؛ لأن الوقوف المفروض هو الكينونة فيه، وكذا النية ليس من شرطه وواجبه الامتداد إلى الغروب وأما سننه فالاغتسال للوقوف والخطبتان والجمع بين الصلاتين وتعجيل الوقوف عقيبهما، وأن يكون مفطرا لكونه أعون على الدعاء وأن يكون متوضئا لكونه أكمل، وأن يقف على راحلته وأن يكون مستقبل القبلة وأن يكون وراء الإمام بالقرب منه وأن يكون حاضر القلب فارغا من الأمور الشاغلة من الدعاء، فينبغي أن يجتنب في موقفه طريق القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم، وأن يقف عند الصخرات السود موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تعذر عليه يقف بقرب منه بحسب الإمكان وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف عند جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات، وترجيحهم له على غيره فخطأ ظاهر ومخالف للسنة، ولم يذكر أحد ممن يعتد به في صعود هذا الجبل فضيلة تختص به بل له حكم سائر أراضي عرفات غير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل إلا الطبري والماوردي في الحاوي فإنهما قالا باستحباب قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء‏.‏ قال وهو موقف الأنبياء وما قالاه لا أصل له ولم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف كذا ذكر النووي في شرح المهذب ومن السنة أن يكثر من الدعاء والتكبير والتهليل والتلبية والاستغفار وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليحذر كل الحذر من التقصير في شيء من هذا فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه ويكثر من التلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، وأن يكثر البكاء مع الذكر فهناك تسكب العبرات، وتستقال العثرات وترتجى الطلبات، وأنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين، وهو أعظم مجامع الدنيا، وقد قيل إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف وأنه أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة كما ورد في الحديث، وليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل ومن المباح أيضا في مثل هذا اليوم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى مزدلفة بعد الغروب‏)‏ أي ثم رح كما ثبت في صحيح مسلم من فعله عليه السلام، وهذا بيان للواجب حتى لو دفع قبل الغروب وجاوز حدود عرفة لزمه دم‏.‏ وأشار إلى أن الإمام لو أبطأ بالدفع بعد الغروب فإن الناس يدفعون؛ لأنه لا موافقة في مخالفة السنة، ولو مكث بعد الغروب وبعد دفع الإمام وإن كان قليلا لخوف الزحام فلا بأس به وإن كان كثيرا كان مسيئا لمخالفة السنة، والأفضل أن يمشي على هينته، وإذا وجد فرجة أسرع، ويستحب أن يدخل مزدلفة ماشيا، وأن يكبر ويهلل ويحمد ويلبي ساعة فساعة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وانزل بقرب جبل قزح‏)‏ يعني المشعر الحرام وهو غير منصرف للعدل والعلمية كعمر من قزح الشيء ارتفع يقال إنه كانون آدم عليه السلام وهو موقف الإمام، كما رواه أبو داود ولا ينبغي النزول على الطريق ولا الانفراد على الناس فينزل عن يمينه أو يساره، ويستحب أن يقف وراء الإمام كالوقوف بعرفة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وصل بالناس العشاءين بأذان وإقامة‏)‏ أي المغرب والعشاء جمع تأخير لرواية مسلم عن ابن عمر ‏{‏أنه عليه السلام أذن للمغرب بجمع فأقام ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى‏}‏‏.‏ وأشار إلى أنه لا تطوع بين الصلاتين ولو سنة مؤكدة على الصحيح، ولو تطوع بينهما أعاد الإقامة كما لو اشتغل بينهما بعمل آخر وفي الهداية، وكان ينبغي أن يعاد الأذان كما في الجمع الأول إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة لما روي أن ‏{‏النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة بالعشاء‏}‏ وإلى أن هذا الجمع لا يختص بالمسافر؛ لأنه جمع بسبب النسك فيجوز لأهل مكة ومزدلفة ومنى وغيرهم وإلى أن هذا الجمع لا يشترط فيه الإمام كما شرط في الجمع المتقدم؛ لأن العشاء تقع أداء في وقتها، والمغرب قضاء، والأفضل أن يصليهما مع الإمام بجماعة وينبغي أن يصلي الفرض قبل حط رحله بل ينيخ جماله ويعقلها، وهذه ليلة جمعت شرف المكان والزمان فينبغي أن يجتهد في إحيائها بالصلاة والتلاوة والذكر والتضرع‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولم تجز المغرب في الطريق‏)‏ أي لم تحل صلاة المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة للحديث‏:‏ «الصلاة أمامك‏}‏ قاله حين قال قيل له الصلاة يا رسول الله وهو في طريق مزدلفة أي وقتها فدل كلامه أنها لا تحل بعرفات بالطريق الأولى‏.‏ وأشار إلى أن العشاء لا تحل بالطريق الأولى وإن كان بعد دخول وقتها؛ لأن صاحبة الوقت وهي المغرب إذا كانت لا تحل به فغيرها أولى، ولما كان وقت هاتين الصلاتين وقت العشاء علم أنه لو خاف طلوع الفجر جاز أن يصليهما في الطريق؛ لأنه لو لم يصلهما لصارتا قضاء، وإذا لم يحل له أداؤهما بالطريق فإذ صلاهما أو إحداهما فقد ارتكب كراهة التحريم فكل صلاة أديت معها وجب إعادتها فيجب إعادتهما ما لم يطلع الفجر فإن طلع سقطت الإعادة؛ لأن الإعادة للجمع بينهما في وقت العشاء، وقد خرج في الفتاوى الظهيرية ثم هاهنا مسألة لا بد من معرفتها وهو أنه لو قدم العشاء على المغرب بمزدلفة يصلي المغرب ثم يعيد العشاء فإن لم يعد العشاء حتى انفجر الصبح عاد العشاء إلى الجواز، وهذا كما قال أبو حنيفة فيمن ترك صلاة الظهر ثم صلى بعدها خمسا، وهو ذاكر للمتروكة لم يجز فإن صلى السادسة عاد إلى الجواز واعلم أن المشايخ صرحوا في كتبهم بعدم الجواز، وهو يوهم عدم الصحة، وليس بمراد بل المراد عدم الحل، ولهذا صرحوا بالإعادة ولو كانت باطلة لكان أداء إن كان في الوقت وقضاء إن كان خارجه، ولو صرحوا بعدم الحل لزال الاشتباه وحاصل دليلهم المقتضي لعدم الحل أنه ظني مفيد تأخير وقت المغرب في خصوص هذه الليلة ليتوصل إلى الجمع بمزدلفة فعملنا بمقتضاه ما لم يلزم تقديم الدليل القاطع وهو الدليل الموجب للمحافظة على الوقت فقبل طلوع الفجر لم يلزم تقديمه على القطعي، وبعده انتفى إمكان تدارك هذا الواجب، وتقرر المأثم إذ لو وجبت الإعادة بعده كان حقيقته عدم الصحة فيما هو مؤقت قطعا، وفيه التقديم الممتنع وفي فتح القدير وقد يقال بوجوب الإعادة مطلقا لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث فتعليله بأنه للجمع فإذا فات سقطت الإعادة تخصيص للنص بالمعنى المستنبط منه، ومرجعه إلى تقديم المعنى على النص وكلمتهم على أن العبرة في المنصوص عليه لعين النص لا لمعنى النص لا يقال لو أجريناه على إطلاقه أدى إلى تقديم الظني على القطعي؛ لأنا نقول ذلك لو قلنا بافتراض ذلك لكنا نحكم بالإجزاء ونوجب إعادة ما وقع مجزئا شرعا مطلقا ولا بدع في ذلك فهو في نظير وجوب إعادة صلاة أديت مع كراهة التحريم حيث نحكم بإجزائها، ويجب إعادتها مطلقا ا هـ‏.‏ وفي المحيط لو صلاهما بعدما جاوز المزدلفة جاز ا هـ‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم صل الفجر بغلس‏)‏ لرواية ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلاها يومئذ بغلس وهو في اللغة آخر الليل، والمراد هنا بعد طلوع الفجر بقليل للحاجة إلى الوقوف بالمزدلفة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم قف مكبرا مهللا ملبيا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك وقف على جبل قزح إن أمكنك، وإلا فبقرب منه‏)‏ بيان للسنة فلو وقف قبل الصلاة أجزأه ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقدمنا أنه واجب، وصرح في الهداية بسقوطه للعذر بأن يكون به ضعف أو علة أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه وسيأتي في الجنايات أن هذا لا يخص هذا الواجب بل كل واجب إذا تركه للعذر لا شيء عليه، ولم يقيد في المحيط خوف الزحام بالمرأة بل أطلقه فشمل الرجل لو مر قبل الوقت لخوفه لا شيء عليه، ولو مر بها من غير أن يقف جاز كالوقوف بعرفة ولو مر في جزء من أجزاء المزدلفة جاز كذا في المعراج، واختلف في جبل قزح فقيل هو المشعر الحرام وقيل المشعر جميع المزدلفة، ولم يذكر البيتوتة بمزدلفة وهي سنة لا شيء عليه لو تركها كما لو وقف بعدما أفاض الإمام قبل الشمس؛ لأن البيتوتة شرعت للتأهب للوقوف، ولم تشرع نسكا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وهي موقف إلا بطن محسر‏)‏ أي المزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر وهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وبالراء سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي عيي وكل ووادي محسر موضع فاصل بين منى ومزدلفة ليس من واحدة منهما‏.‏ قال الأزرقي إن وادي محسر خمسمائة ذراع وخمس وأربعون ذراعا، وأما مزدلفة فإنها كلها من الحرم سميت بذلك من التزلف، والازدلاف وهو التقرب؛ لأن الحجاج يتقربون منها وحدها ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة ويدخل فيها جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور، وظاهر كلام المصنف كغيره أن بطن محسر ليس مكان الوقوف كبطن عرنة في عرفات فلو وقف فيهما فقط لا يجوز كما لو وقف في منى سواء قلنا أن عرنة ومحسرا من عرفة ومزدلفة أو لا ووقع في البدائع، وأما مكانه يعني الوقوف بمزدلفة فجزء من أجزاء مزدلفة إلا أنه لا ينبغي له أن ينزل في وادي محسر، ولو وقف به أجزأه مع الكراهة، وذكر مثله في بطن عرنة قال في فتح القدير، وما ذكره في البدائع غير مشهور من كلام الأصحاب بل الذي يقتضيه كلامهم عدم الإجزاء وهو الذي يقتضيه النظر لأنهما ليسا من مسمى المكانين والاستثناء منقطع‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى منى بعدما أسفر جدا‏)‏ أي ثم رح وفسر الأسفار بأن تدفع بحيث لم يبق إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلى ركعتين كما في المحيط وفي الظهيرية، وينبغي أن يكثر من الذكر والصلاة عليه عليه السلام والدعاء وهو ذاهب فإذا بلغ بطن محسر أسرع إن كان ماشيا، وحرك دابته إن كان راكبا قدر رمية حجر؛ لأنه عليه السلام فعل ذلك‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فارم جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات كحصى الخذف‏)‏ أي المكان المسمى بذلك، والجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات لما بينهما من الملابسة وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى من تجمر القوم إذا تجمعوا وجمر شعره إذا جمعه على قفاه والخذف بالخاء والذال المعجمتين أن ترمي بحصاة أو نواة أو نحوها تأخذه بين سبابتيك وقيل أن تضع طرف الإبهام على طرف السبابة، وفعله من باب ضرب كذا في المغرب، وصحح الولوالجي القول الثاني؛ لأنه أكثر إهانة للشيطان، وهذا بيان للسنة فلو رمى كيف أراد جاز ولو رمى من فوق العقبة أجزأه، وكان مخالفا للسنة قيد بالرمي؛ لأنه لو وضعها وضعا لم يجز لترك الواجب والطرح رمي إلى قدميه فيكون مجزئا إلا أنه مخالف للسنة ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي وموضع السقوط خمسة أذرع كذا في الهداية وفي الظهيرية يجب أن يكون بينهما هذا القدر فلو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه، ولو وقعت بعيدا لم يجزه؛ لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص، والقريب عفو ولو وقعت الحصاة على ظهر رجل أو على محمل وثبتت عليه كان عليه إعادتها، وإذا سقطت عن المحمل أو عن ظهر الرجل في سننها ذلك أجزأه وأشار بقوله كحصى الخذف إلى أنه لو رمى بسبع حصيات جملة واحدة فإنه يكون عن واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال والتقييد بالسبع لمنع النقص لا لمنع الزيادة فإنه لو رماها بأكثر من السبع لم يضره والتقييد بالحصى لبيان الأكمل، وإلا فيجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر وما يجوز التيمم به ولو كفا من تراب ولا يجوز بالخشب والعنبر واللؤلؤ والجواهر والذهب والفضة إما لأنها ليست من جنس الأرض أو؛ لأنها نثار وليست برمي أو؛ لأنه إعزاز لا إهانة، وكذا التقييد بحصى الخذف لبيان الأكمل فإنه لو رماها بأكبر منه جاز لحصول المقصود غير أنه لا يرمى بالكبار من الحجارة كي لا يتأذى به غيره، ولو رمى صح وكره ولم يبين الموضع المأخوذ منه الحصا لأنه يجوز أخذه من أي موضع شاء فليأخذها من مزدلفة أو من قارعة الطريق، ويكره من عند الجمرة تنزيها؛ لأنه حصى من لم يقبل حجه فإنه من قبل حجه رفع حصاه كما ورد في الحديث ولم يشترط طهارة الحجارة؛ لأنه يجوز الرمي بالحجر النجس، والأفضل غسلها وفي مناسك الحصيري جرى التوارث بحمل الحصى من جبل على الطريق فيحمل منه سبعين حصاة قال وفي مناسك الكرماني يدفع من المزدلفة بسبع حصيات، وقال قوم بسبعين حصاة، وليس مذهبنا ا هـ‏.‏ كذا في معراج الدراية وفي فتح القدير‏:‏ ويكره أن يلتقط حجرا واحدا فيكسره سبعين حجرا صغيرا كما يفعله كثير من الناس اليوم، ولم يبين وقته وله أوقات أربعة وقت الجواز ووقت الاستحباب ووقت الإباحة ووقت الكراهة، فالأول ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني حتى لو أخره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة خلافا لهما ولو رمى قبل طلوع فجر يوم النحر لم يصح اتفاقا، والثاني من طلوع الشمس إلى الزوال، والثالث من الزوال إلى الغروب، والرابع قبل طلوع الشمس وبعد الغروب كذا في المحيط وغيره وجعل في الفتاوى الظهيرية الوقت المباح من المكروه فهي ثلاثة عنده والأكثرون على الأول‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وكبر بكل حصاة‏)‏ أي مع كل حصاة من السبعة بيان للأفضل فلو لم يذكر الله أصلا أو هلل أو سبح أجزأه ولم يذكر الدعاء آخره؛ لأن السنة أن لا يقف عندها كما سيشير إليه في رمي الجمار الثلاث، وضابطه أن كل جمرة بعدها جمرة فإنه يقف بعدها للدعاء؛ لأنه في أثناء العبادة وكل جمرة ليس بعدها جمرة ترمى في يومه لا يقف عندها؛ لأنه خرج من العبادة كذا في الظهيرية وهو مشكل فإن الدعاء بعد الخروج من العبادة مستحب كما في الصلاة والصوم إذا خرج منهما فالأولى الاستدلال بفعله عليه السلام، كذلك وإن لم تظهر له حكمة وقد يقال هي كون الوقوف يقع في جمرة العقبة في الطريق فيوجب قطع سلوكها على الناس وشدة ازدحام الواقفين والمارين، ويفضي ذلك إلى ضرر عظيم بخلافه في باقي الجمرات فإنه لا يقع في نفس الطريق بل بمعزل عنه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ واقطع التلبية بأولها‏)‏ أي مع أول حصاة ترميها لحديث الصحيحين لم يزل عليه السلام يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولا فرق بين المفرد والمتمتع والقارن وقيد بالمحرم بالحج؛ لأن المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الحجر؛ لأن الطواف ركن في العمرة فيقطع التلبية قبل الشروع فيها، وقيد بكونه مدركا للحج بإدراك الوقوف بعرفة؛ لأن فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف؛ لأن العمرة واجبة عليه فصار كالمعتمر، والمحصر يقطعها إذا ذبح هديه؛ لأن الذبح للتحلل والقارن إذا كان فائت الحج يقطع حين يأخذ في الطواف الثاني؛ لأنه يتحلل بعده وأشار بالرمي إلى أنه يقطعها إذا فعل واحدا من الأمور الأربعة التي تفعل في الحج يوم النحر فيقطعها إن حلق قبل الرمي أو طاف الزيارة قبل الرمي والذبح والحلق أو ذبح قبل الرمي دم التمتع أو القران، ومضى وقت الرمي المستحب كفعله فيقطعها إذا لم يرم جمرة العقبة حتى زالت الشمس كذا في المحيط‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم اذبح‏)‏ أي على وجه الأفضلية؛ لأن الكلام في المفرد وهو ليس بواجب عليه، وإنما يجب على القارن والمتمتع، وأما الأضحية فإن كان مسافرا فلا أضحية عليه، وإلا فعليه كالمكي وقد ثبت في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام‏:‏ «ذبح بيده ثلاثا وستين بدنة وأمر عليا فذبح ما بقي وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب إلى البيت فصلى بمكة الظهر‏}‏ قال ابن حبان والحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين بدنة أنه كان له يومئذ ثلاث وستون سنة فنحر لكل سنة بدنة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم احلق أو قصر و الحلق أحب‏)‏ بيان للواجب والمراد بالحلق إزالة شعر ربع الرأس إن أمكن وإلا بأن كان أقرع فيجري الموسى على رأسه إن أمكن وأحب على المختار وإلا بأن كان على رأسه قروح لا يمكنه إمرار الموسى عليه ولا يصل إلى تقصيره فقد سقط هذا الواجب وحل كمن حلقها، والأحسن أن يؤخر الإحلال إلى آخر الوقت من أيام النحر ولو أمكنه الحلق لكن لم يجد آلة ولا من يحلقها فليس بعذر وليس له الإحلال؛ لأن إصابة الآلة مرجو في كل ساعة ولا كذلك برء القروح واندمالها والإزالة لا تختص بالموسى بل بأي آلة كانت أو بالنورة، والمستحب الحلق بالموسى؛ لأن السنة وردت به والمراد بالتقصير أن يأخذ الرجل أو المرأة من رءوس شعر ربع الرأس مقدار الأنملة كذا ذكر الشارح، ومراده أن يأخذ من كل شعرة مقدار الأنملة كما صرح به في المحيط وفي البدائع قالوا يجب أن يزيد في التقصير على قدر الأنملة حتى يستوفي قدر الأنملة من كل شعرة برأسه؛ لأن أطراف الشعر غير متساو عادة قال الحلبي في مناسكه وهو حسن، والأنملة بفتح الهمزة والميم وضم الميم لغة مشهورة، ومن خطأ راويها فقد أخطأ واحدة الأنامل ثم التخيير بين الحلق والتقصير إنما هو عند عدم العذر فلو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير، أو التقصير تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض، وإنما كان الحلق أفضل لدعائه عليه السلام للمحلقين بالرحمة ثنتين أو ثلاثا وفي الثالثة أو الرابعة للمقصرين بها، ويستحب حلق الكل للاتباع ولم يذكر سنن الحلق؛ لأنه لا يخص الحلق في الحج؛ لأن أصل الحلق في كل جمعة مستحب كما صرح به في القنية ويعتبر في سنته البداءة باليمين للحالق لا المحلوق فيبدأ بشقه الأيسر ومقتضى النص البداءة بيمين الرأس لما في الصحيحين‏:‏ «أنه عليه السلام قال للحلاق خذ وأشار إلى الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس‏}‏ وفي فتح القدير أنه هو الصواب وهو خلاف ما ذكر في المذهب، ويستحب دفن شعره والدعاء عند الحلق وبعد الفراغ مع التكبير وإن رمى الشعر فلا بأس به، وكره إلقاؤه في الكنيف والمغتسل كذا في فتاوى العلامي ويستحب له أن يقص أظفاره وشواربه بعد الحلق للاتباع ولا يأخذ من لحيته شيئا؛ لأنه مثلة ولو فعل لا يلزمه شيء‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وحل لك غير النساء‏)‏ أي بالحلق أي فحل التطيب لحديث الصحيحين عن ‏{‏عائشة رضي الله عنها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت‏}‏ وحرم الدواعي كالوطء أفاد أنه ليس قبل الحلق تحليل لشيء مما كان حلالا بالإحرام ويدل عليه ما في المبسوط فالحاصل أن في الحج إحلالين‏:‏ أحدهما بالحلق والثاني بالطواف وما في الهداية وغيرها من أن الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا يخالفه ما في فتاوى قاضي خان، ولفظه وبعد الرمي قبل الحلق يحل له كل شيء إلا الطيب والنساء وعن أبي يوسف يحل له الطيب أيضا، وإن كان لا يحل له النساء، والصحيح ما قلنا؛ لأن الطيب داع إلى الجماع، وإنما عرفنا حل الطيب بعد الحلق قبل طواف الزيارة بالأثر ا هـ‏.‏ وينبغي أن يحكم بضعف ما في الفتاوى لما قدمنا ولما في المحيط ولفظه ولو أبيح له التحلل فغسل رأسه بالخطمي، وقلم ظفره قبل الحلق فعليه دم؛ لأن الإحرام باق لأنه لا يحل إلا بالحلق فقد جنى عليه، وقد ذكر الطحاوي لا دم عليه عند أبي يوسف ومحمد لأنه أبيح له التحلل فيقع به التحلل ا هـ‏.‏ فلو كان التحلل بالرمي حاصلا في غير الطيب والنساء لم يلزمه دم بتقليم الأظفار، وتخريجه على قول الطحاوي عندهما بعيد كما لا يخفى‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى مكة يوم النحر أو غدا أو بعده فطف للركن سبعة أشواط بلا رمل وسعي إن قدمتهما وإلا فلا‏)‏ أي ثم رح في واحد من هذه الأيام الثلاثة لأداء الركن الثاني من ركني الحج، وقد قدمنا أن الركن أكثرها وهو أربعة أشواط على الصحيح، وما زاد عليها واجب ينجبر بالدم، وأول وقت صحته إذا طلع الفجر يوم النحر ولو قبل الرمي والحلق، وليس له وقت آخر تفوت الصحة بفوته بل وقته العمر، وأما الواجب فهو فعله في يوم من الأيام الثلاثة عند أبي حنيفة حتى لو أخره عنها مع الإمكان لزمه دم وأفضلها أولها كالأضحية، وقد ورد في الحديث‏:‏ «أنه عليه السلام طاف بعد صلاة الظهر يوم النحر للركن‏}‏، وأفاد أنه مخير في تقديم الرمل والسعي إذا طاف للقدوم وفي تأخيرهما لطواف الركن، وأنهما لا يتكرران في الحج ولم يتكلم على الأفضلية، وقالوا الأفضل تأخيرهما لطواف الركن ليصيرا تبعا للفرض دون السنة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وحل لك النساء‏)‏ يعني بالحلق السابق لا بالطواف؛ لأن الحلق هو المحلل دون الطواف غير أنه آخر عمله في حق النساء إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي آخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت به، والدليل على ذلك أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق كذا ذكر الشارح وغيره، وهكذا صرح في فتح القدير أنه لا يخرج من الإحرام إلا بالحلق فأفاد أنه لو ترك الحلق أصلا وقلم ظفره أو غطى رأسه قاصدا التحلل من الإحرام كان ذلك جناية موجبة للجزاء، وحل النساء موقوف على الركن منها وهي أربعة فقط‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وكره تأخيره عن أيام النحر‏)‏ أي تأخير الطواف كراهة تحريم لترك الواجب وهو أداؤه فيها‏.‏ وأشار به إلى رد ما ذكره القدوري في شرحه من أن آخره آخر أيام التشريق ولو قال وكره تأخيرهما عن أيام النحر لكان أولى ليفيد حكم الحلق كالطواف ومحل الكراهة ولزوم الدم بالتأخير إنما هو عند الإمكان كما في المحيط من أن الحائض إذا طهرت في آخر أيام النحر فإن أمكنها الطواف قبل الغروب ولم تفعل فعليها دم للتأخير، وإن لم يمكنها طواف أربعة أشواط فلا شيء عليها ولو حاضت بعدما قدرت على الطواف فلم تطف حتى مضى الوقت لزمها الدم؛ لأنها مقصرة بتفريطها وفي الظهيرية وليالي أيام النحر منها‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى منى فارم الجمار الثلاث في ثاني النحر بعد الزوال بادئا بما يلي المسجد ثم بما يليها ثم بجمرة العقبة وقف عند كل رمي بعده رمي ثم غدا كذلك ثم بعده كذلك إن مكثت‏)‏ أي ثم رح إلى منى فارم الجمار اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر البيتوتة بمنى؛ لأنها ليست بواجبة؛ لأن المقصود الرمي لكن هي سنة حتى قال الإسبيجابي ولا يبيت بمكة ولا بالطريق، ويكره أن يبيت في غير أيام منى‏.‏ وأشار بقوله بعد الزوال إلى أول وقته في ثاني النحر وثالثه حتى لو رمى قبل الزوال لا يجوز، ولم يذكر آخره وهو ممتد إلى طلوع الشمس من الغد فلو رمى ليلا صح وكره كذا في المحيط فظهر أن له وقتين وقتا لصحة ووقتا لكراهة بخلاف الرمي في اليوم الأول فإن له أربعة أوقات كما بيناه وما في الفتاوى الظهيرية من أن اليوم الثاني من أيام التشريق كاليوم الأول ولو أراد أن ينفر في هذا اليوم له أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز قبل الزوال لمن لا يريد النفر فمحمول على غير ظاهر الرواية فإن ظاهر الرواية أنه لا يدخل وقته في اليومين إلا بعد الزوال مطلقا وفي المحيط لو أخر رمي الجمار كلها إلى اليوم الرابع رماها على التأليف؛ لأن أيام التشريق كلها وقت رمي فيقضي مرتبا كالمسنون وعليه دم واحد عند أبي حنيفة؛ لأن الجنايات اجتمعت من جنس واحد فيتعلق بها كفارة واحدة ولو تركها حتى غابت الشمس في آخر أيام التشريق يسقط الرمي لانقضاء وقته وعليه دم واحد اتفاقا ا هـ‏.‏ فظهر بهذا أن للرمي وقت أداء ووقت قضاء، وأفاد بقوله بادئا إلى آخره إلى الترتيب بين الجمار الثلاث وهو ثابت من فعله عليه السلام ولم يبين أنه واجب أو سنة وفيه اختلاف ففي الظهيرية فإن غير هذا الترتيب فبدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي مسجد الخيف بمنى وهو بعد في يومه أعاد الجمرة الوسطى وجمرة العقبة ليأتي بها مرتبا مسنونا وعلل في المحيط بأن الترتيب مسنون قال وإن لم يعد أجزأه لأن رمي كل جمرة قربة تامة بنفسها وليست بتابعة للبعض فلا يتعلق جوازها بتقديم البعض دون البعض كالطواف قبل الرمي يقع معتدا به وإذا كان مسنونا فإن رمى كل جمرة بثلاث أتم الأولى بأربع ثم أعاد الوسطى بسبع ثم العقبة بسبع؛ لأنه رمى من الأولى أقلها، والأقل لا يقوم مقام الكل فلا عبرة به فكأنه أتى بهما قبل الأولى أصلا فيعيدهما فإن رمى كل واحدة بأربع أتم كل واحدة بثلاث؛ لأنه أتى بالأكثر من الأولى وللأكثر حكم الكل فكأنه رمى الثانية والثالثة بعد الأولى، وإن استقبل رميها كان أفضل ليكون إتيانه له على الوجه المسنون وعن محمد لو رمى الجمار الثلاث فإذا في يده أربع حصيات لا يدري من أيتهن هي يرميهن عن الأولى، ويستقبل الجمرتين الباقيتين لاحتمال أنها من الأولى فلم يجز رمي الأخريين، ولو كن ثلاثا أعاد على كل جمرة واحدة ولو كانت حصاة أو حصاتين أعاد كل واحدة ويجزئه؛ لأنه رمى كل واحدة بأكثرها فوقع معتدا به، ولكن لم يقع مسنونا ا هـ ما في المحيط وهو صريح في الخلاف وفي اختيار السنية واعتمده المحقق ابن الهمام وقال في المجمع، ويسقط الترتيب في الرمي وأفاد بقوله إن مكثت أنه مخير في اليوم الثالث بين النفر والإقامة للرمي في اليوم الرابع، والإقامة أفضل اتباعا لفعله عليه السلام كذلك وأن الإقامة لطلوع الفجر يوم الرابع موجبة للرمي فيه وبإطلاقه أنه لا فرق بين المكي والآفاقي في هذه الأحكام لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى‏}‏ وهو كالمسافر مخير بين الصوم والفطر، والصوم أفضل وقد قدمنا معنى قوله وقف عند كل رمي بعده رمي في بحث رمي جمرة العقبة فراجعه وينبغي أن يحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويدعو الله بحاجته ويجعل باطن كفيه إلى السماء في رفع يده، وأن يستغفر لأبويه وأقاربه ومعارفه للحديث‏:‏ «اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج‏}‏ وفي فتح القدير ومن كان مريضا لا يستطيع الرمي يوضع في يده ويرمى بها أو يرمي عنه غيره، وكذا المغمى عليه ولو رمى بحصاتين إحداهما لنفسه والأخرى للآخر جاز، ويكره ولا ينبغي أن يترك الجماعة مع الإمام بمسجد الخيف ويكثر من الصلاة فيه أمام المنارة عند الأحجار ا هـ‏.‏ وقد قدمنا أن المرأة لو تركت الوقوف بالمزدلفة لأجل الزحام لا يلزمها شيء فينبغي أنها لو تركت الرمي له لا يلزمها شيء والله سبحانه أعلم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو رميت في اليوم الرابع قبل الزوال صح‏)‏ يعني عند أبي حنيفة اقتداء بابن عباس وقياسا على الترك وقالا لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام قيد بالرابع احترازا عن الثاني والثالث فإنه لا يجوز قبل الزوال اتفاقا لوجوب اتباع المنقول عنه عليه السلام لعدم المعقول فلم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك بالتقديم وفي المحيط، وأما وقت الرمي في اليوم الرابع فعند أبي حنيفة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إلا أن ما قبل الزوال وقت مكروه وما بعده مسنون ا هـ‏.‏ فعلم أنه قبل الزوال صحيح مكروه عنده‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وكل رمي بعده رمي فارمه ماشيا وإلا فراكبا‏)‏ بيان للأفضل واختيار لقول أبي يوسف على ما حكاه في الظهيرية عن إبراهيم بن الجراح قال‏:‏ دخلت على أبي يوسف فوجدته مغمى عليه ففتح عينه فرآني فقال يا إبراهيم أيما أفضل للحاج أن يرمي راجلا أو راكبا فقلت راجلا فخطأني ثم قلت راكبا فخطأني ثم قال ما كان يوقف عندها فالأفضل أن يرميها راجلا وما لا يوقف عندها فالأفضل أن يرميها راكبا قال فخرجت من عنده فما بلغت الباب حتى سمعت صراخ النساء أنه قد توفي إلى رحمة الله تعالى فلو كان شيء أفضل من مذاكرة العلم لاشتغل به في هذه الحالة؛ لأن هذه الحالة حالة الندامة والحسرة ا هـ‏.‏ وأما قول أبي حنيفة ومحمد فعلى ما في فتاوى قاضي خان أن الرمي كله راكبا أفضل في قول أبي حنيفة ومحمد وعلى ما في فتاوى الظهيرية أن الرمي كله ماشيا أفضل فإن ركب إليها فلا بأس به يعني عندهما؛ لأنه حكى قول أبي يوسف بعده فتحصل أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال ورجح في فتح القدير ما في الظهيرية لأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة ورميه عليه السلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا ا هـ‏.‏ ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة في اليوم الأخير فهو راكبا أفضل لكان له وجه باعتبار أنه ذاهب إلى مكة في هذه الساعة كما هو العادة، وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع له صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ويكره أن تقدم ثقلك إلى مكة وتقيم بمنى للرمي‏)‏ لأثر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه من قدم ثقله قبل النفر فلا حج له وأراد نفي الكمال، ولأنه يوجب شغل قلبه وهو في العبادة فيكره والظاهر أنها تنزيهية والثقل متاع المسافر وحشمه وهو بفتحتين وجمعه أثقال‏.‏ وأشار إلى أنه يكره ترك أمتعته بمكة والذهاب إلى عرفات بالطريق الأولى؛ لأنها العبادة المقصودة بخلاف الرمي وينبغي أن يكون محل الكراهة في المسألتين عند عدم الأمن عليها بمكة أما إن أمن فلا لعدم شغل القلب‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم إلى المحصب‏)‏ أي ثم رح إليه وهو بضم الميم وفتح المهملتين وهو الأبطح موضع ذات حصى بين منى ومكة، وليست المقبرة منه وكانت الكفار اجتمعوا فيه وتحالفوا على إضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه السلام فيه إراءة لهم لطيف صنع الله به وتكريمه بنصرته فصار ذلك سنة كالرمل في الطواف، وعبارة المجمع أولى من عبارة المصنف حيث قال ثم ينزل بالمحصب فإن الرواح إليه لا يستلزم النزول فيه وفي فتاوى قاضي خان، وينزل بالمحصب ساعة وفي فتح القدير ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويهجع هجعة ثم يدخل مكة ا هـ‏.‏ فحاصله أن النزول به ساعة محصل لأصل السنة، وأما الكمال فما ذكره الكمال‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فطف للصدر سبعة أشواط وهو واجب إلا على أهل مكة‏)‏ وله خمسة أسام ما في الكتاب لأنه يصدر عنه أي يرجع والصدر الرجوع وطواف الوداع؛ لأنه يودع البيت به وطواف الإفاضة؛ لأنه لأجله يفيض إلى البيت من منى وطواف آخر عهد بالبيت؛ لأنه لا طواف بعده وطواف الواجب واختلف في المراد بالصدر الذي هو الرجوع فعندنا هو الرجوع عن أفعال الحج، وعند الشافعي هو الرجوع إلى أهله ويبتنى عليه أنه لو طاف للصدر ثم أقام بمكة لشغل لم تلزمه الإعادة عندنا خلافا له، والصحيح قولنا لأن الإضافة للاختصاص وهو إما باعتبار أن الصدر سبب أو شرط وكل منهما سابق على الحكم وهو بما قلنا وعلى قوله يكون متأخرا عن الحكم والفراغ عن الأفعال يسمى صدورا ورجوعا عنها إلى الحالة التي كانت من قبل، ولم يبين وقته وله وقتان وقت الجواز ووقت الاستحباب، فالأول أوله بعد طواف الزيارة إذا كان على عزم السفر حتى لو طاف كذلك ثم أطال الإقامة بمكة ولو سنة ولم ينو الإقامة بها، ولم يتخذها دارا جاز طوافه وأما آخره فليس بموقت ما دام مقيما حتى لو أقام عاما لا ينوي الإقامة فله أن يطوف ويقع أداء، والثاني أن يوقعه عند إرادة السفر حتى روي عن أبي حنيفة أنه لو طافه ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر ليكون توديع البيت آخر مورده كذا في المحيط، ولم يشترط المصنف له نية معينة فأفاد أنه لو طاف بعدما أحل النفر ونوى التطوع أجزأه عن الصدر كما لو طاف بنية التطوع في أيام النحر وقع عن الفرض، وأفاد ببيان صفته أنه لو نفر ولم يطف يجب عليه أن يرجع فيطوفه، لكن قالوا ما لم يجاوز المواقيت فإن جاوزها لم يجب الرجوع عينا بل إما أن يمضي وعليه دم، وإما أن يرجع فيرجع بإحرام جديد؛ لأن الميقات لا يجاوز بلا إحرام فيحرم بعمرة فإذا رجع ابتدأ بطواف العمرة ثم يطوف للصدر ولا شيء عليه لتأخيره، وقالوا الأولى أن لا يرجع ويريق دما؛ لأنه أنفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه من دفع ضرر التزام الإحرام ومشقة الطريق والدليل على وجوبه من السنة أحاديث أصرحها ما في صحيح مسلم كانوا ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت‏}‏، وأراد بأهل مكة من اتخذ مكة أو داخل المواقيت دارا فلا طواف صدر على من كان داخل المواقيت وكذا الآفاقي الذي اتخذ مكة دارا ثم بدا له الخروج وقيده في البدائع بأن ينوي الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول، وأما إن نواه بعده لا يسقط عنه في قول أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف‏.‏ ا هـ‏.‏ والظاهر الإطلاق وحكى الخلاف في المجمع بين أبي يوسف ومحمد، والمراد بالنفر الأول الرجوع إلى مكة في اليوم الثالث من أيام النحر وكذا لا طواف صدر على مكي إذا أراد الخروج منها وقيد بالمحرم بالحج باعتبار أن الكلام فيه؛ لأن المعتمر ليس عليه طواف الصدر وقيد بكونه أدرك الحج فإن فائت الحج ليس عليه طواف الصدر؛ لأن العود مستحق عليه ولأنه كالمعتمر وأشار إلى أنه لا سعي عليه ولا رمي في هذا الطواف لعدم ذكرهما، ولم يستثن الحائض والنفساء مع أهل مكة في سقوطه عنهم لما سيصرح به في باب التمتع ولما علم أن واجبات الحج تسقط بالعذر، وقد صرح قاضي خان في فتاواه بسقوط طواف الصدر بالعذر والحيض، والنفاس عذر ولهذا قال في المحيط لو طهرت الحائض قبل أن تخرج من مكة يلزمها طواف الصدر، وإن جاوزت بيوت مكة مسيرة سفر وطهرت فليس عليها العود، وكذا لو انقطع دمها فلم تغتسل ولم يذهب وقت الصلاة حتى لو خرجت من مكة لم يلزمها العود؛ لأنه لم يثبت لها أحكام الطاهرات وقت الطواف، وإن خرجت وهي حائض ثم اغتسلت ثم رجعت إلى مكة قبل أن تجاوز المواقيت فعليها الطواف وإن جاوزت فلا تعود إلا بإحرام جديد وأشار بطواف الصدر إلى الرجوع إلى أهله وعدم المجاورة بمكة ولهذا قال في المجمع بعده ثم يعود إلى أهله، والمجاورة بها مكروهة يعني عند أبي حنيفة وعندهما لا تكره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود‏}‏ والمجاورة هي العكوف وله أن المجاورة في العادة تفضي إلى الإخلال بإجلال بيت الله لكثرة المشاهدة، والعكوف في الآية بمعنى اللبث دون المجاورة، وقد قرر في فتح القدير فيها كلاما حسنا فراجعه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ثم اشرب من زمزم والتزم الملتزم وتشبث بالأستار والتصق بالجدار‏)‏ بيان للمستحب وقدم الشرب من ماء زمزم على غيره؛ لأن المختار تقديمه كما ذكره الشارح، واختار في فتح القدير تأخيره عن التزام الملتزم وتقبيل العتبة وكيفيته أن يأتي زمزم فيستقي بنفسه الماء ويشربه مستقبل القبلة ويتضلع منه ويتنفس مرات ويرفع بصره في كل مرة، وينظر إلى البيت ويمسح به وجهه ورأسه وجسده ويصب عليه إن تيسر، والملتزم ما بين الركن والباب كما رواه البيهقي حديثا مرفوعا، والتشبث التعلق والمراد بالأستار أستار الكعبة إن كانت قريبة بحيث ينالها، وإلا وضع يديه فوق رأسه مبسوطتين على الجدار قائمتين ويجتهد في إخراج الدمع من عينه ولم يذكر المصنف أنه يمشي القهقرى وذكره في المجمع لكن يفعله على وجه لا يحصل منه صدم أو وطء لأحد وهو باك متحسر على فراق البيت الشريف وبصره ملاحظ له حتى يخرج من المسجد وفي رسالة الحسن البصري التي أرسلها إلى أهل مكة أن الدعاء هناك يستجاب في خمسة عشر موضعا في الطواف وعند الملتزم وتحت الميزاب وفي البيت وعند زمزم وخلف المقام وعلى الصفا وعلى المروة وفي السعي وفي عرفات وفي مزدلفة وفي منى وعند الجمرات الثلاث، وزاد غيره وعند رؤية البيت وفي الحطيم لكن الثاني هو تحت الميزاب فهو ستة عشر موضعا‏.‏